العهد الجديد
( 1 ) نجم الدين يفكر في الإصلاح :
ما إن تولى الصالح نجم الدين مقاليد الحكم في مصر حتى أخذ يفكر فيما يقدمه لمصر التي هوى بِها العادل إلى هوة الفقر، ووهدة الحاجة والفساد، ويفكر فيما يصنع بداود وأطماعه، بعمه الصالح إسماعيل وألاعيبه، كما أمر بإطلاق سراح فخر الدين بن شيخ الشيوخ.
أما شجرة الدر فكانت سعادتها بالغةً، وقد أقبلت على نجم الدين تُهنئُه بِمُلك مصرَ، وبقرب تحقيق الآمال، لكنه قال لها: الطريق طويل يا شجرة الدر، ولا إخال الأمور تلين بسهولة، فأمامنا ذئاب وثعالب، وهل تظنين تلك السيوف التي ارتفعت لتحَيَّتنا كلها لنا؟! كثير منها يرتقب، وعديد منها أُرْغِمَ على الخضوع، وغداً تخرج الأفاعي من جحورها، وتسعى العقارب بالفساد.
( 2 ) التفكير في محاربة الفساد والقضاء على الفرنج :
ومادام العدو في بلادنا فلن نهدأ ولن نطمئن، لن تهدأ البلاد يا شجرة الدر إلا إذا أُلقي الفرنج في البحر أو نثرت أشلاؤهم على وجه الرمال، ولن تنام الخيانة إلا إذا قُطِّعت أيديها الملوثة، والسلطان خلاَّب يا شجرة الدر، يتلهف الجاهلون على ما يرون فيه من المظهر البراق، ولا يدرون ما خلفه من ثقل الأوزار، ولست أدري كيف ألف حولي قلوباً صافيةً، أطمئن إليها وأثق بِها؟! ومن أين لي بتلك القلوب؟! وكيف أجدها؟! أودُّ أن أطير لإلى الفرنج اليوم قبل الغدِ، ولن يتهيأ ذلك بغير القوة الخالصة من الأطماع!
( 3 ) التفكير في تكوين جيش من المماليك :
وكانت شجرة الدر تترقب الفرصة لتعرض شيئاً هاماً تود أن يستمع إليه نجم الدين، فوجدت هذه الفرصة قد سنحت فأسرعت قائلةً : نعم يا مولاي لابد من تلك القلوب النقية، التي تدفع السيوف بإيمانٍ وعزمٍ، ولي رأي يا مولاي في العثور على تلك القلوب، وكنت عرضته ونحن في نابلس، بعدما تخلَّى عنَّا بنو أيوب، وتركونا وعادوا إلى دمشق، أتذكره يا مولاي ؟
قال وهو يهز رأسه مقتنعاً : رأي صائب يا شجرة الدر، وسأبدأ من الغد بتنفيذه، فأشتري مماليك أقوياء أذكياء ، أربِّيهم كما أريد، وأُنشِّئُهم كما أشاء، أربِّيهم على الفضائل، وأعِدُّهم ليوم النِّزال .
( 4 ) بناء قلعة جديدة :
وتقيم لهم يا مولاي قلعة أخرى غير هذه،غير قلعة صلاح الدين، في مكان أشد تحصيناً وأكثر بهجةً من هذا المكان الذي يُطِلُّ على الجبل، قلعة تُعرف باسم نجم الدين، لا يسأم ساكنها منها، تحرسها السفن ويحتضنها النيل الفياض، ويبعث بأمواجه القوة والشهامة في صدور الجنود، موضع حصين يا مولاي، وقعت عيناي عليه وأنا أنظر إلى النيل في وقت الأصيل، في الجزيرة المقابلة للفسطاط، في مكان البستان الشامخ الأشجار، تشمَخُ أبراج قلعة نجم الدين، وتقف في وسط الماء كأنَّها النَّسرُ المحلِّقُ في الهواءِ !.
أعجب نجم الدين بِهذا الرأي، وزاد وجهه انبساطاً، والتفت إلى شجرة الدر، وانثنى إليها قائلاً : محاربة ماهرة، خبيرة بالقلاع والحصون والمواقع.
وخبيرة بالقلوب يا مولاي!؛ فزاد نجم الدين انبساطاً، واستطاب حديثها، وقال في نشوة: ثم ماذا يا شجرة الدر؟ قالت في حنان : هل يرى مولاي أن يُرْجِئَ الحديث وينال قسطاً من الراحة يَمُدُّه أياماً بعد ذلك العناء.
( 5 ) الإصلاح يحتاج إلى الجهد والتعب :
فأسرع قائلاً باهتمام: ماذا تقولين أيتها الشعلة من الذكاء والعزم ؟! وهل يُخْلِد المصلحون إلى الراحة؟! أيامهم كلُّها نصبٌ، وحياتُهم كلُّها جهادٌ، ليلهم تفكير، ونهارهم تدبير وتنفيذ، معاركهم متلاحقة، لأنهم يكافحون الشرَّ، والشرُّ لا ينقطع أبداً.
أوَّلُ شيءٍ وقبل كلِّ شيءٍ، أوَدُّ أن أَطْمَئِنَّ على مال الدولةِ، فهو حياتُها وعصبُها، ودماؤها التي تمنحها القوة والنماء، وفي الصباحِ سأسألُ الخازنَ عمَّا بيده منها، لا، لن أنتظرَ الصباحَ فهو بعيدٌ!.
( 6 ) الاطمئنان على مال الدولة :
ونَهضَ مسرعاً إلى القاعةِ الفسيحةِ، ودعا الوزيرَ ومعينَ الدينِ بنِ شيخِ الشيوخِ ليُقْبِلا على عَجَلٍ، فالأمرُ لا يحتملُ الإبطاءَ، على أن يُحضرا معهما العادلَ السلطانَ المخلوعَ من محبسه، وبعدَ قليلٍ وقفَ الجميعُ أمامَ السُّلطانِ نجم الدين، وأخذَ السُّلطانُ يؤنِّبُ العادلَ على ما أضاعَ من المالِ، ويدقُّ كفًّا بكفٍّ، ويصيح قائلاً في غضبٍ شديدٍ: ما هذا أيُّها الإنسانُ الذي لم يَرْعَ حقَّ اللهِ والوطنِ؟! دينارٌ واحدٌ كلُّ ما بَقِيَ في الخِزانةِ من الألوفِ المؤلَّفةِ التي أعَدَّها الكاملُ للشدائدِ؟! كيف تصرَّفتَ أيُّها السُّلطانُ الطِّفلُ؟! ومن أفهمك أنَّ هذا المالُ مالُكَ أنتَ؟! ألم تعلَمْ أيها العابثُ أنَّه مالُ الشعبِ، لكلِّ امرِئٍ فيه نصيبٌ، ولكلِّ فردٍ فيه حقٌّ ؟!
ألم تعلَمْ أنَّ هذا المالَ لا ينبغي أنْ يُنْفقَ إلا فيما يعودُ على البلادِ بالخيرِ؟ أيكفي هذا الدينارُ وتلك الدراهمُ لنفقةِ الجيشِ وإعدادِ السلاحِ والعُددِ، أم لنفقاتِ الإصلاحِ التي ينبغي أن يُسارعَ الحاكِمُ بِها؟! أم لغيرِها من الأبوابِ الواسعةِ؟! أورَدْتَ البلادَ موارِدَ الْهلاكِ أيها المخلوقُ، أنتَ وأمُّكَ سوداءُ بنتُ الفقيهِ! لم ترْعيَا حقًّا ولم تنظُرَا إلى واجبٍ!.
( 7 ) رد الأموال المسروقة إلى الخزينة:
وفي تلكَ الأثناءِ كان الجنودُ يُهاجمون بيوتَ حاشيةِ العادلِ، ومنازلَ أولئكَ السُّفهاءِ، الذينَ حُمِلتْ إليها الدَّنانِيرُ من خزائنِ الدولةِ في أقفاصٍ، هدايا من السُّلطانِ الغافلِ، ويسوقونَهم بما نَهبوا، حتى أوقفوهم أمامَ نجم الدين وتلكَ الأموالُ بين أيدِيهم، فألقى عليهِم نظرةً غاضبةً، ثم أمر الوزيرَ برَدِّ العادلِ إلى السجنِ، وبرَدِّ تلكَ الأموالِ إلى الخزائنِ، وإلقاءِ أولئكَ اللصوصِ في ظلماتِ المحابسِ، حتى يرى فيهِم رأيه. وباتَ ليلتَهُ هادئاً لأنه اطمأنَّ على المالِ، ولم ينَمْ وقطع ما بقِيَ من الليلِ يبحثُ شئونَ الدولةِ مع وزيرهِ، وشجرةُ الدر على عِلمٍ بما يدورُ وما يُدَبَّرُ.
( 8 ) سيوف الحديد وسيوف الأحداق:
وأبو بكرٍ القمَّاشُ لا ينقطعُ عن نجم الدين، يُبلِّغُ الأخبارَ الخفيَّةَ، وينقلُ إليه كلَّ ما يدورُ بين الناسِ، وذاتَ يومٍ أقبلَ عليه وسلَّمَ وجلسَ، لَمَّا سأله نجم الدين عن البِضاعةِ الجديدةِ، قال باسماً: بِضاعةٌ مستوردةٌ، جاءتْ مع مولايَ، ودخَلَتْ مصرَ في رِكابِه!. من يا أبا بكرٍ؟! تعنِي داودَ؟!.
نعم يا مولايَ ومَن حولَه مِن ضاربي سيوفِ الحديدِ وسيوفِ الأحداقِ!.
فقهقه نجم الدين طويلاً، ثُمَّ أرجعَ البصرَ إلى أبي بكرٍ وقال باسماً: عرَفنا سيوف الحديدِ يا أبا بكرٍ، وهم الأمراءُ الذين يجتمعُ بِهم داودُ ويدبِّرُ معهُم الإثمَ، فما سيوفُ الأحداقِ؟!.
سوداءُ بنتُ الفقيهِ يا مولايَ عِنْدَه، فرَّتْ إليه عندما علِمَتْ بأنه يجمعُ الأعداءَ، ويلُفُّ حولَه الساخطينَ والحاقِدينَ، ويدبِّرُ وإيَّاهُم للانتقاضِ.
هذا سيفٌ من سيوفِ الأحداقِ يا أبا بكرٍ، والسُّيوفُ الأُخرى؟!
جاريَتان من جوارِي مولايَ، وردُ الْمُنى ونورُ الصَّباحِ، عند داودَ، لا تهدآنِ عن تدبيرِ الشَّرِ في ليلٍ ولا في نَهارٍ.
( 9 ) شجرة الدر ترى أن الطريق طويل :
فصاحَ نجمُ الدِّينِ مُهتَزًّا من شدةِ الغضبِ، يأمرُ بالقبضِ عليهِم، وأَتبَع ذلكَ صائِحًا بالقبضِ على الأمراءِ ومِن بَيْنِهم داودَ .فأسرعتْ شجرةُ الدُّرِ قائلةً بصوتٍ رقيقٍ هادئٍ : لا يا مولايَ ! حتَّى لا تكونَ حركةً عامةً، تُمكِّنُ داودُ مما يشتهي، فيصطادُ في الماءِ العَكِرِ!.وما الرأيُ يا شجرةَ الدُّرِّ؟!
ألاَّ يقبضَ مولايَ على الأمراءِ، ويبعثَ إلى داودَ مَن يُوهِمُه بِأَنَّ مولايَ سيقبِضُ عليه، فإذا أحَسَّ بذلكَ انخلعَ فؤادُه، ورحلَ في طَيِّ الظلامِ، مُسرعاً إلى الكرك، وكفانا شَرَّه وشرَّ مَن معه، وحِينذاكَ يَفرُغُ مولايَ إلى الأمراءِ، ويأخذُهم واحداً واحداً، فنحنُ لا نزالُ في أوَّلِ الطَّريقِ .
من مواطن الجمال في التعبير
هوى بها العادل إلى هوة الفقر : تعبير يصور الفقر بالحفرة العميقة ، مما يوحي بالانهيار والسقوط.
هل تظنين تلك السيوف كلها لنا ؟: استفهام يفيد النفي والشك.
غداً تخرج الأفاعي من جحورها، وتسعى العقارب بالفساد : تصوير للمفسدين والخائنين بالأفاعي والعقارب.
ألم تعلم أيها العابث أنه مال الشعب : استفهام للتقرير، والنداء للتوبيخ .
سؤال وجواب
س : فيم فكَّر " نجم الدين " بعد أن تولَّى حُكم مصر ؟
جـ: بعد أن تولَّى" نجم الدين " حُكم مصر فيما يُقدِّمه لمصر التي هوى بها العادل إلى هُـوَّة الفقر ، ووهدة الحاجة والفساد، ويُفكر فيما يصنع بداود وأطماعه ، ويُفكِّر فيما يصنعه بعمه الصالح إسماعيل وألاعيبه ، كما أمر بإطلاق سراح " فخر الدين بن شيخ الشيوخ ".
س:بم هنأت شجرة الدر زوجها وماذا كان شعورها ؟
جـ : كانت سعادتها بالغة وهى تهنئه بقرب تحقيق الآمال .
س : حـدَّد " نجم الدين " أهم الوسائل لعودة الهدوء إلى البلاد . وضح ذلك
جـ : حـدَّد " نجم الدين " أهم الوسائل لعودة الهدوء إلى البلاد ألا وهي :
1ـ إلقاء الفرنج في البحر ، أو نثر أشلائهم على الرمال .
2ـ قطع أيدى الخيانة المُلوثة .
3ـ إبعاد الطامعين في السلطة والمال .
4ـ تكوين حاشية من أصحاب القلوب الصافية الموثوق بهم .
س : ما الشىء الذى عرضته شجرة الدر على نجم الدين فى نابلس ومصر ؟ وما رأيه فيه ؟
جـ : عرضت عليه أن يشترى مماليك أقوياء أذكياء يربيهم كما يريد وينشئهم كما يشاء على الفضائل ويعدهم ليوم النزال
• اقتنع نجم الدين برأى شجرة الدر وقال لها رأى صائب يا شجرة الدر وسأبدأ من الغد بتنفيذه
س :لماذا أرادت شجرة الدر أن تبنى قلعة غير قلعة صلاح الدين وأين اختارت مكانها ولماذا ؟
جـ : أرادت شجرة الدر أن تبنى قلعة غير قلعة صلاح الدين فى مكان أشد تحصينا وأكثر بهجة من هذا المكان الذى يطل على الجبل قلعة تعرف باسم نجم الدين ، واختارت المكان فى الجزيرة المقابلة للفسطاط ، واختارت هذا المكان لأنه مكان حصين بهيج يبعث بأمواجه القوة والشهامة فى صدور الجنود .
س : عرضت شجرة الدر على نجم الدين أن يبنى قلعة تعرف باسمه غير قلعة صلاح الدين فما موقفه من ذلك العرض وبم وصف شجرة الدر ؟
جـ : أعجب نجم الدين بهذا الرأى وزاد وجهه انبساطا والتفت إلى شجرة الدر وانثنى إليها قائلا : محاربة ماهرة خبيرة بالقلاع والحصون والمواقع .
س : لماذا لا يركن المُصلحون إلى الراحة ؟
جـ : لا يركن المُصلحون إلى الراحة : لأن أيامهم كلها نصب و حياتهم كلها جهاد و ليلهم تفكير ، ونهارهم تدبير ومعاركهم مُتلاحقة ؛ لأنهم يُكافحون الشر ، والشر لا ينقطع ولا يهدأ .
س : ماذا فعل جنود نجم الدين بالعادل وحاشيته ؟ وما مصير أموال الشعب التي نُهبت ؟
جـ: جنود " نجم الدين " : هاجموا بيوت حاشية " العادل " ومنازل السفهاء الذين حُملت إليهم الدنانير هدايا من السلطان الغافل وساقوهم بما نهبوا حتى أوقفوهم أمام نجم الدين وتلك الأموال بأيديهم فألقى نجم الدين عليهم نظرة غاضبة ثم أمر برد العادل إلى السجن وبرد تلك الأموال إلى الخزائن وإلقاء أولئك اللصوص فى ظلمات المحابس حتى يرى فيهم رأيه .
س : ما الهدف وراء اجتماع " داود " مع الأمراء ؟
جـ : تكوين قوة مُعارضة لنجم الدين و التخطيط للانقلاب عليه .
س : " بِضاعة مُستورة ، جاءت مع مولايّ ودخلت معه مصر في ركابه !
من قائل هذه العبارة ؟ وما البضاعة المُشار إليها ؟
جـ : قائل العبارة هو : " أبو بكر القماش ".
* البِضاعة : سيوف الحديد وسيوف الأحداق.
س : ما المقصود بـسيوف الأحداق ؟
جـ : المقصود بـسيوف الأحداق : سوداء بنت الفقيه التى فرت إلى داود عندما علمت بأنه يجمع الأعداء ويلف حوله الساخطين والحاقدين ويدبر وإياهم للانتقاض ، وورد المنى ونور الصباح اللتان كانتا عند داود تدبران الشر لنجم الدين بالليل والنهار.
س : ما موقف " نجم الدين منهم جميعا ؟
جـ : أمر بالقبض على ورد المنى ونور الصباح وأمر بالقبض على الأمراء ومن بينهم داود .
س: ما رأي كلٍ من " شجرة الدر " و " نجم الدين " تجاه " داود " ؟
جـ : 1ـ " نجم الدين " : كان يريد القبض عليه هو وأتباعه.
2ـ " شجرة الدر " : رأت ألاّ يقبض عليه بل يُرسل إليه من يُوهمه بأن " نجم الدين " سيقبض عليه ، فإذا أحـسَّ بذلك انخلع فؤاده ورحل في طي الظلام ، مُسرعًا إلى الكرك ويكفيهم الله شره وحينئذ يفرغ نجم الدين للأمراء ويأخذهم واحدا واحدا وذلك لأنهم مازالوا فى أول الطريق .
وبالله التوفيق........